يشهد قصر السعادة المسمى سابقا دار السعادة على عصر ثري بالمعرفة المعمارية ، حتى لوعرف تغييرات وظيفية وعديد التحويرات فهو يبقى اليوم أحد أندر القصور التي احتفضت حديقتها بما كانت عليه في الفترة الحسينية. يستحق الموضوع دراسة معمقة ذات اتجاهين ليكون الفهم أفضل حول إدراك أسلوب الحدائق الحسينية لإنشاء علاقة يمكن وصفها << بمشهد طبيعي >> بين القصور و الاقاليم المحيطة ثم التفكير في المكانة التي يمكن أن تشغلها الحدائق التاريخية في الثقافة التونسية المعاصرة.
جذور تأسيس قصر السعادة و حديقته :
بني من أجل سعادة السيادة فحمل اسما للتذكير به. دار السعادة كان في البداية عربون حب الباي لزوجته. فكان أن بني محل إقامة الباي سنة 1912 عن طريق الناصر باي في إطار التاج.
أقيم برج دار السعادة في وسط الحديقة على أربعة أركان ذات مظاهر مختلفة.
كانت الواجهة الرئيسية متماثلة و ذات طراز يعود تماما إلى بداية القرن 20 ، ما نسميه بالطراز المستشرق أو المغربي الحديث .
يتركب برج المرسى << دار السعادة >> على منوال غيره من جزأين فوق بعض : المشترك الذي يكون الأساس و البناء المرتفع المخصص للسكن أروقة سفلية و أخرى علوية ذات شرفات تطل على الحدائق في أهم خصائصها >> كانت عمارة هذا القصر حسب جاك ريفو شبيهة بما في المناطق الحضرية أو بالأحرى بما هو معمول به في منطقة سيدي أبي سعيد .
أما الحديقة فهي مهيئة في شكل مربعات ، فصلت روضاتها المزروعة بممرات متقاطعة ، و كان أحد نقاط التقاطع معينا بفسقية يتصبب الماء منه في حوض ، و هذا الأخير يتمركز وسط حديقة مربعة ، مستلهمة من الطراز الإيراني المنتشر بكثرة في البلدان الإسلامية .
لقد تبنى المسلمون الحدائق ذات أربعة حدود حسب الطراز الفارسي والذين نشروها فيما بعد ، و كان هذا التخطيط المتقاطع للممرات معروفا
الواقع جدا في الأندلس منذ القرن الرابع عشر، ثم انتشر في بلدان افريقيا
الشمالية الثلاثة عبر المهاجرين الأندلسيين. في تونس نشر الأندلسيون المطاردون في إسبانيا هذا الطراز في المدن التي وجدوا فيها ملجأ . هذا التقسيم المربع للحدائق كان طرازا لعديد الحدائق في تونس منذ حقبة الحفصيين . نجده على سبيل المثال بدار عثمان (القرن 17) ودار بن عبد الله (القرن 17) وبقصر الباي بباردو (القرن 18) كما نجده بحديقة دار السعادة في قرون متأخرة .
ونجد في هذه الحديقة أيضا روضات أخرى ذات أشكال هندسية تستغل لزراعة الخضروات أو لحصر مجموعة النباتات العطرية . أما طبيعة النباتات و الأشجار المستغلة فليست لدينا معلومات دقيقة عنها . مع ذلك إن شجرة الأروكاريا (من فصيلة الصنوبريات) أو نخلة معمرة مازالت تشهد اليوم بحضورها منذ نشوء الحديقة .
امتداد تطور القصر و حديقته :
<< و كل أثر غير مكتمل أبدا يبقى مفتوحا للسيرورة التاريخية التي تبنيه، و هذه السيرورة هي أكثر أهمية من نتيجتها >>
إن الأهمية التي أخذتها دار السعادة منذ نشأتها تجعلنا نفترض وجود نوع من رهافة الإحساس لدى اختيار هذا الموقع دون غيره و لكن بالخصوص بواسطة الناصر باي الذي بناها . يبدو محل الإقامة هذا محبوبا منذ نشأته لنفس الأسباب التي للقصر الحفصي : القرب من البحر والمركز التاريخي و المناخ المعتدل والموقع المشرف على البحر والحقول . لقد عرف الموقع منذ تشييده عديد التحويرات التي تمس الصرح المعماري حديقته كل ذلك يقتضي تحليلا زمنيا ومكانيا وهكذا سوف نجرب إعادة تكوين صورة لها منذ أن بناها الباي آخذين في الإعتبار مختلف التحويرات و التوسعات التي شملتها .
بعد وفاة الباي سنة 1922 أقامت للا قمر نهائيا مع نسائها في هذا القصر الذي اكتسبته على سبيل الهبة . ثم أنها حافظت طوال حياتها الممتدة بحكمة على الأملاك التي ورثتها عن زوجها .
وإلى هذين الأخيرين آلت ملكية هذا المحل بوفاة البية السالفة سنة 1942 . وسكن الجنرال وزوجته هذا المحل منذ ذلك التاريخ دون أن يدخلا عليه أي تغيير . ولكن رغم العزيمة الصادقة فإنهما فشلا في الحفاظ على كامل المحل و فرطا فيه بالبيع في النهاية فتحصلت عليه الدولة التونسية منذ 1953. ورد في مقال بجريدة لابراس بتاريخ 27 جويلية 1975 : << لقد تمت إعادة تهيئة هذا القصر (….) بمناسبة إقامة سلطان المغرب فيه >> بتاريخ أكتوبر 1956 إضافة إلى ذلك فإن اشغال هدم محلات إقامة الامراء التي أجريت في المرسى مست البناءات التي للقصر الرسمي ، مفسحة المجال هكذا لفضاء أمام قصر السعادة . وقد تمت تهيئة هذا الفضاء حسب تخطيط غير منتظم ممرات ذات خطوط منحنية تحدد بساتين صغيرة تنقسم إلى أربعة أقسام . أربعة ممرات تنطلق من الوسط في أربعة إتجاهات متعارضة . و يشار إلى نقطة تقاطع الممرات بروظة مستديرة . هذا النوع الثاني من التخطيط يذكرنا بالحديقة ذات التقاطع المهيأة منذ بناية دار السعادة يكمن الإختلاف الوحيد في شكل البساتين الصغيرة .
ولم ترزق بأي ولد من الثلاثة بايات التي كانت تزوجت بهم ، ولذا منحت جميع ممتلكاتها إلى الجنرال شاذلي حيدر وزوجته
في اليوم الثاني من إعلان الجمهورية بتاريخ 25 جويلية 1957 أقام الحبيب بورقيبة الرئيس الأول للجمهورية بقصر السعادة وجعله مقرا رسميا للحكم . و في سنة 1958 بعيد إقامته بقليل شرع في هدم بعض محلات إقامة البايات ومنها دار التاج و على أطلال هذا الأخير تحصلت دار السعادة مرة واحدة على مجال ترابي إضافي . هذا الإمتداد الثاني وقع تهيئته حسب تخطيط منظم، فقد زرعت الحواشي المحيطة بالحديقة بأشجار السروcyprès بكثافة قصد تسييج الفضاء و حجب المقر الرئاسي خلف النبات . ولا يزال على أطراف الحديقة اليوم بستان صغير للخضروات جعل فضاؤه المزروع في شكل مربع متساوي الأبعاد . و تمتد بين الأشجار طرق ذات زوايا قائمة لتيسير حركة المترجلين و مرور مياه الجابية التي تحتل مركز الحديقة عبر قنوات .
شهد في سنوات الستينلت تغييرا جديدا تمثل في إعطاء المدخل الرئيسي للقصر جانبا من الأهمية و ذلك من خلال تخطيطه و دعمه بخطين من أشجار السرو مثلما كان في حدائق الدور المبنية بالقرنين 18 و 19 فمن جهة يندمج مشهد الزرع مع صورة جبل سيدي أبي سعيد من بعيد ، ومن جهة أخرى يعطي لمدخل القصر قيمة مهمة .
في سنة 1970 وقع الشروع في أشغال التوسعة التي اقتضاها اختياره ليكون دار الضيافة بعد أن غادره بورقيبة إلى قصر قرطاج .
إن التغييرات و التوسعات والتزويق التي عرفها قصر السعادة لاستقبال الضيوف بتونس لم تمس القصر فقط وإنما أيضا حديقته التي خضعت لعدة تحويرات معتبرة .
لقد تحصل القصر أكثر من مرة على فضاء إضافي ليصل إلى مساحة جملية تقدر ب 10 هكتارات. هذه المرة شمل توسيع الحديقة جهة الشمال و جهة الشرق ما عدا الحديقة الصغيرة ((الفارسية )) لم يطالها أي تغيير فهي تشهد إلى حدود الوقت الراهن بنمط من الحدائق الأكثر انتشارا في قصور البايات الحسينيين .
إن التخطيط الحديث إتبع الشكل الهندسي الذي يذكرنا بنفس الحديقة ذات التقاطع . يبقى الإختلاف الوحيد يتمثل في مقاييس أبعاد الروضات المتكونة من خلال تقاطعات
الممرات . تظهر ملاحظة الصورة الجوية لسنة 1988 أن التخطيط يتناظر مع الحديقة الفارسية المرسومة على زربية يعود تاريخها إلى القرن 17.
بعد استقبال كبار الشخصيات الذين نزلوا بتونس مدة عشرات السنين، تنوسي القصر شيئا فشيئا إلى حدود ما تبع التوسع العمراني الذي عرفته ضاحية المرسى في أواخر القرن 20 والذي أعقب ظهور عديد البناءات الحديثة حول القصر . نقلت الدولة مقر إقامة ضيوفها المهمين إلى محل آخر . و سوف يعرف قصر السعادة مرة أخرى تغييرا عميقا من حيث مصيره.
.