المــــــــــرسى : التــــــــاريخ   و  التــــــــراث

 

وصف لنا محمد الوزان (“ليون الإفريقي” بالنسبة للنصوص الغربية) في أواسط  القرن السادس عشر،مدينة المرسى قائلا أنها ” بلدة  قديمة صغيرة  تقع على شاطئ  البحر”، “يسكنها صيادون و فلاحون و غاسلو الكتان “، “أين اعتاد الملك الاصطياف”. و حسب نفس المرجع فهي واحدة من بين ثلاث بلدات تقع على أرض قرطاج  العتيقة: قمرت شمالا و المرسى في الوسط و أخرى جنوبا ربما تكون دوار الشط.

“هي مرفأ أين ترسي المراكب” يقول البكري في القرن الحادي عشر للميلاد.     و من أوائل نفس القرن تشير مناقب الشيخ محرز ابن خلف إلى  أن ولي تونس كان يتردد على آثار قرطاج حيث كان يأتي للتأمل غير بعيد عن مرفأ يعرف ب”مرسى الروم”. كما نجد في نصوص أخرى تعود إلى العصور الوسطى المتأخرة فيها  من يتحدث عن “مرسى قرطاجنة” و آخر يذكر “مرسى ابن عبدون” و آخر “مرسى ابن الجراح” و كلها تتموقع في نفس الجهة تقريبا. فهل هي تشير إلى نفس المرفأ لكن بأسماء متغيرة من عهد إلى عهد؟ أم هي تشير إلى مواني مختلفة؟ الأمر لا يزال غامضا حسب معلوماتنا وهو يستحق البحث و التمحيص.

هذا علما و أن المنطقة التي تقع في وسطها مدينة المرسى و التي تبدأ من  صهاريج المعلقة جنوبا و تنتهي في  قمرت (جبل خاوي) شمالا، كانت تعرف في قديم الزمان  ب”المغرة”(Mégara) . وهي عبارة عن سهول  مزدهرة تكتسحها الحقول و الرياض و الأشجار و الجداول أين كان يروق لأهل قرطاج العظمى الفسحة والاستكانة بعيدا عن هموم  المدينة وضجيجها.

و للأسف فإننا لا نملك عن تلك الحقبة الطويلة من التاريخ التي تمتد على أكثر من عشرة قرون، سوى القليل النادر من الشواهد الأثرية: آثار لمسكن ريفي مع معصرة زيت من العهد البوني (القرن الثاني ق.م.)عثر عليها بجهة قمرت،        و أخرى بونية  أيضا تم اكتشافها على شاطئ “خليج القردة”، ثم تمثال جنائزي    و مجموعة جرار من نفس العهد، و كذلك معبد بوني- روماني قرب برج بن عياد، و مقبرة يهودية بقمرت، و رسم جنائزي محفور يصف حياة امرأة رومانية، و بقايا حمامات عثر عليها ما بين سفارة فرنسا و البحر، و كنيسة بيزنطية ببئر فتوحه، و أخرى للقديس سبريانو، و مقابر وثنية و أخرى مسيحية….

ذلك أن الحياة، رغم الحروب والأزمات الخطيرة التي مرت بها البلاد في العديد من المرات،   لم تنقطع، على ما يبدو، في كامل المنطقة. بل تمادت بصفة أو بأخرى حسب الظروف السياسية و الأمنية. فبقي أغلبية السكان يتعاطون مهن الصيد و الفلاحة مثلما كان الأمر في القرون الأولى  بعد أن أصبح معظمهم يتكلم اللاتينية، إلى أن تم الفتح العربي و انهارت قرطاج بصفة لا رجعة فيها في سنة 699 م.

  عند ذاك سطع نجم   بلدة تونس المجاورة المنطوية وراء البحيرة متحولة في أقل من قرن (القرن الثامن) إلى قلعة قوية قادرة على مواجهة الغارات البيزنطية  بفضل سلسلة الرباطات التي تتقدمها  على كامل الجبهة  البحرية، بدءا  من رباط رادس و ربما حلق الوادي  مرورا بجبل المنارة (سيدي بوسعيد) إلى المرسى (رباط سيدي صالح) إلى جبل خاوي  (قمرت).

و مع استتاب الأمن تحت حكم دولة بني حفص    و عاصمتها تونس، بداية من القرن الثالث عشر، و مع إشعاع ظاهرة التصوف، استقطبت  المشارف المطلة على البحر العديد من   خلوات  المتصوفين و في مقدمتهم الشيخ عبد العزيز القريشي المهدوي الأب الروحي للشيخ أبي سعيد الباجي، الذي استقبل في رحاب زاويته عميد الفكر الروحاني و نقيب المتصوفين الشيخ محيي الدين ابن عربي قبل أن تناله المنية في سنة 1224.

ومن الزوايا التي انتشرت في تلك الربوع نخص بالذكر،  فضلا عن زاويتي سيدي عبد العزيز و سيدي صالح بالمرسى، زاوية سيدي بوسعيد بجبل المنار              و زاوية سيدي عبد الله الجراح و زاوية سيدي الظريف و زاوية سيدي داود.       و غير بعيد عن مدينة تونس ،  زاوية صاحب الطريقة الشاذلية  الذائعة الصيت، سيدي أبي الحسن الشاذلي ، المطلة جنوبا من فوق هضبة الجلاز، على البحيرة ثم البحر. زد على ذلك قبور الشهداء المنتشرة في العديد من الأماكن، هؤلاء المجاهدون الذين أتوا في سنة 1270 من أقاصي البلاد لنصرة السلطان الحفصي، الخليفة أبو عبد الله المستنصر بالله، ضد الملك الفرنسي لويس التاسع قائد الحملة الصليبية. فتحولت القبور المغطاة بالقباب إلى أماكن للزيارة و التبرك.  مما أضفى على المنطقة، بعد تراجع الحضور الوثني ثم المسيحي ، أبعادا دينية إسلامية ذات الطابع الروحاني.

و سبق أن أشرنا إلى القصر الذي ذكره محمد الوزان خلال القرن السادس عشر بضاحية المرسى دون ذكر الاسم الذي عرف به و وعرفت به البلدة منذ تاريخ بنائه في سنة 1500  وهو  العبدلية إلى أن عادت إلى تسميتها الأصلية التي اشتهرت بها في العصور الإسلامية الأولى،  أي المرسى.

و في حقيقة الأمر كانت العبدلية  أكثر من قصر بل منتزه شاسع الأرجاء   يمسح كل المنطقة الواقعة بين حي الأحواش القديم غربا إلى المرتفعات المطلة على شاطئ البحر شرقا. و يحتوي على ثلاث بنايات رئيسية: العبدلية الكبرى في تخوم الأحواش و العبدلية الصغرى  في مكان مقهى الحفصي القديم على مشارف الشاطئ و العبدلية الوسطى قرب مقهى الصفصاف الحالي. ويعود بناء ذلك الرياض إلى الخليفة أبو عبد الله محمد سنة  1500 الذي شيده من أجل ابنته المريضة، كما تقول النصوص، فأصبح منتزها للراحة و الاصطياف تعود سلاطين بني حفص التردد عليه مثله مثل رياض باردو الذي أنشأه السلطان أبو فارس عبد العزيز (1394-1434)  و جنان  أبو فهر الذي أنشأه المستنصر بالله( 1249-1277)  و جنان  رأس الطابية الذي أنشأه الأمير الموحدي عبد الواحد في سنة 1226 و زاد فيه و وسعه سلاطين بني حفص.

و على العموم فإن العبدلية تمادت  طيلة القرن السابع عشر، تحت دولة المراديين ثم الثامن و التاسع عشر تحت حكم الحسينيين، في جلب عناية الحكام و الأمراء       و أهل الخاصة من المقربين الذين أقدموا على ترميمها و تحسين منشآتها. فنرى البعض منهم يأتونها  أحيانا لقضاء فصل الصيف في أجوائها المريحة و أحيانا أخرى يستخدمونها إما كقصور للضيافة يستقبلون فيها كبار الضيوف  الوافدين على الباي و إما كمقر لسكنى بعض كبار القنصليات الأجنبية.

 و استمرت تلك الأحوال إلى عهد علي باي (1882 – 1902) الذي اختار  أن يقيم،   إلى حين  وفاته، بدار التاج، ذلك   القصر الذي بناه  أخوه محمود باشا باي (1855-1859) على أنقاَض فرع العبدلية المجاور للصفصاف. فشهدت، منذ ذلك التاريخ (1882)، الضاحية الشمالية لمدينة تونس تحولا ت جذرية ازدادت عمقا  عندما تخلى الحسينيون بصفة نهائية و بدون رجعة سنة واحدة  بعد انتصاب الحماية (1881)، عن ضاحية باردو كمقر رسمي لسكناهم.

هكذا و في حين شهدت مدينة البايات بباردو، بداية من سنة 1882، تلاشيا ملحوظا إلى حد اندثار العديد من مبانيها، تحولت المرسى، على عكس ذلك،  إلى مدينة مزدهرة تتوفر فيها جل المنشآت الضرورية: قشلة للعسكر، سوق، مسجد، فرن للخبز، حمام، إسطبل لتربية الخيول،فنادق،  مقاهي  فضلا عن البيوت و القصور التي ماانفك يشيدها الأمراء و كبار رجالات الدولة  و الموظفون.

  ومن آثار  ذلك الغزو العمراني  انقراض الكثير من الأجنة و  الضياع  و في مقدمتها أراضي منتزه العبدلية الشاسعة التي تقلصت تقلصا مرموقا،  فاندثر من  جرائها  الكثير من البنايات مثل العبدلية الصغرى. و لم تنج من ذلك الاكتساح، سوى العبدلية الكبرى التي بقيت صامدة كشاهد فريد من نوعه في بلادنا ، رغم التغييرات التي نالت من أصالته، على ما كانت عليه عمارة قصور بني حفص بأبراجها ذات الطوابق و زخارفها الخزفية و الجصية التي تذكرنا بقصور غرناطة.

 هذا وقد سبق أن تحول خلال المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، الكثير من  القناصل الأجانب (فرنسا، المملكة المتحدة، نابلي، سردا نيا، السويد، أمريكا، الدنمارك، هولندا…) إلى المرسى  ليستقروا بها  مستغلين  أحيانا قصور الخواص و أحيانا أخرى قصور البايات مثل قنصلية المملكة المتحدة   في سنة  1856 و القنصلية العامة لفرنسا التي استقربها، إثر انتصاب  الحماية في سنة 1881، المقيم العام لفرنسا بتونس.

و في سنة 1912 استحدثت أول بلدية كان من أبرز أعضائها الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي سيكون له شأن عظيم في العلوم الإسلامية. فكانت منطلقا لنمو حضري غير مسبوق، تمثل في وضع مقسمات عمرانية جديدة كمقسم مرسى-المدينة و مقسم مرسى-الشاطئ و مقسم سيدي عبد العزيز و مقسم مرسى-كوب   و قمرت… أين انتقل الكثير من أعيان الدولة و الموظفين و التجار و أرباب الصناعات التونسيون و الأجانب، فأنشئوا بها الفيلات على النمط الأوروبي محاطة أحيانا بالجنان.  و منذ ذلك التاريخ و مع تكاثر المصطافين من أبناء البلد  والأجانب (الخلايعية) طوال فصل الصيف،  الوافدين على المدينة من العاصمة  و من داخل البلاد، شاعت سمعة المدينة  كمركز من أهم مراكز الاصطياف و النزهة.

و من أبرز رموز ظاهرة الاصطياف،  قبة الهواء المبنية في البحر قريبا من الشاطئ، وهي بناء فخم ذو طابقين تم تشييده و تصميمه في حوالي 1920 لكي يسمح لصاحبه مع أسرته و حريمه و مقربيه، بأن يتمتع ببرودة الهواء عندما يشتد القيظ في فصل الصيف و بالسباحة بمنأى عن عيون المارة والمتطفلين. فجاء  مرفوعا على أعمدة إسمنتية و من تحته ومن حواليه البحر الذي ينزل إليه  بواسطة فتحة بها مدرج متحرك. أما  الدخول إلى القصر فيتم عن طريق ممر يصله بالشاطئ.

أما قصر السعادة،  مقر بلدية المرسى حاليا،  فيرتبط تاريخ إنشائه  بقصة إحدى العلجيات التي كان لها شأن في تاريخ الدولة الحسينية. وهي المعروفة ب”للا قمر” التي اشتراها  الصادق باي   و تزوج بها  و عند وفاته سنة 1882  تزوجت   بخلفه علي باي ثم  و بعد وفاة هذا الأخير    تزوجت في سنة 1908بخلفه الناصر باي  الذي تعلقت همته بإكرامها فبنا لها  هذا القصر و سماه قصر السعادة وأحاطه برياض فسيح.  فجاء على ما هو عليه بأسلوبه المتميز المحبذ آنذاك من قبل الأسرة الحاكمة حيث  نجح مصممه أيما نجاح في المزج بكل حذق بين الأسلوب التقليدي التونسي و الأنماط الزخرفية الأوربية. و قد سكنه الحبيب بورقيبة عندما تم انتخابه أول رئيس للجمهورية التونسية قي 25 جويلية 1957 قبل أن يتحول فيما بعد إلى القصر الرئاسي  بقرطاج. عند ذاك استغل قصر السعادة كقصر للضيافة و أخيرا إلى مقر للبلدية.

و من آثار التحولات الحضرية العميقة التي شاهدتها المرسى طيلة النصف الأول من القرن العشرين،  تنامي الحركة الثقافية و الفنية و الاجتماعية إذ أصبحت بيوت كبار العلماء و المثقفين ملتقيات للعلم والأدب مثل الشيخ خليل بوحاجب المتزوج بالمثقفة و الأديبة المصرية الأميرة نازلي، الذي استقبل ببيته الشيخ المصلح محمد عبدو، و مثل الشيخ العالم المصلح الطاهر ابن عاشور و ابنه الفاضل ابن عاشور والشيخ الطاهر العنابي  والشيخ بيرم الخامس… كما برز في رحابها كبار الرواد من الموسيقيين مثل عبد العزيز الجميل و علي الرياحي و من  الفنانين التشكيليين مثل  نور الدين الخياشي  و من الأدباء والشعراء و عامة الناس، من العاصمة للتلاقي و التحاور في مقاهي الصفصاف و القرنبالي و العالية… و لم تزل زواياها معاقل وضاءة للحركة الصوفية الضاربة في القدم التي يتوافد عليها بانتظام   المريدون و الزائرون من كل الجهات  مثل زاوية سيدي عبد العزيز و زاوية سيدي صالح المشهورة. وقد اشتهرت هذه الأخيرة  لدى الخاصة و العامة ب “خرجتها” خلال فصل الخريف التي تليها عند حلول فصل الصيف  الاحتفالات الشعبية الصاخبة التي تنظمها سنويا  الطريقة العيساوية.

د. عبد العزيز دولاتي